كيف سيكون النظام الاقتصادي العالمي الجديد؟

 

‫نظم مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة حلقة نقاشية، استضاف خلالها الدكتور محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة، بحضور خبراء وباحثي المركز، للحديث عن الاتجاهات الرئيسية للنظام الاقتصادي الدولي الجديد قيد التشكل. وجاءت الحلقة تحت عنوان “محددات فاعلة: كيف سيكون النظام الاقتصادي العالمي الجديد؟”، وتطرق فيها محيي الدين إلى عدد من القضايا، أبرزها ملامح النظام الاقتصادي الحالي، وأسباب تآكل أدوار المؤسسات الاقتصادية الحالية، وملامح النظام الاقتصادي العالمي الجديد قيد التشكل، وغيرها من القضايا الاقتصادية الأخرى، وفيما يلي أبرز الأفكار المطروحة بالحلقة:‬
‫‬
‫تحولات جذرية:‬
‫‬
‫منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عامي 2008-2009، ظهرت بوادر خلل بالنظام الاقتصادي العالمي بمؤسساته الرئيسية المنبثقة عن اتفاقية بريتون وودز كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ وهو ما يعني أننا قد نكون في طور مرحلة اضمحلال للنظام الاقتصادي العالمي القائم، ويتضح ذلك على النحو التالي:‬
‫‬
‫● تغير ميزان القوى الاقتصادية: يختلف ميزان القوى الاقتصادية في العالم الآن عما كان عليه الوضع في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث يترسخ ظهور قوى اقتصادية جديدة مثل الصين ودول الآسيان، بالإضافة إلى الهند صاحبة أعلى معدلات نمو اقتصادي في العالم حالياً. والآن باتت الكتلة الآسيوية مركز ثقل اقتصادي كبير في العالم، ويتحرك نحوها مركز الجاذبية الاقتصادية.‬
‫‬
‫ ورغم ظهور هذا النمط الجديد من توزيع القوى؛ فلا يمكن الجزم بأن النظام الاقتصادي أو حتى السياسي العالمي بات متعدد الأقطاب أو الأطراف، كما بشرت به كتابات بعض الاقتصاديين مثل روبرت زوليك، الرئيس السابق للبنك الدولي، الذي تحدث عن نظام متعدد الأقطاب، أو الاقتصادي الأمريكي جيفري ساكس، الذي نادى بنظام متعدد الأطراف.‬
‫‬
‫● تراجع الطبقة الوسطى في أوروبا وأمريكا: تتآكل الطبقة الوسطى في أوروبا والولايات المتحدة بشكل ملحوظ، في مقابل صعود الطبقة الوسطى في الهند والصين. ويعود ذلك إلى أن نظام دولة الرفاه القائم على توفير التعليم والخدمات الأساسية في أوروبا قد يبدو في طريقه للتراجع، في حين أن نموذج الاقتصاد الأمريكي لا يلقى استحساناً كافياً من الأجيال الجديدة من المهاجرين والشباب الذين يبحثون عن أكثر من الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ويطمحون للعمل والكسب والثراء السريع، كما كان عليه الحال في الماضي، للذين تطلعوا “للحلم الأمريكي”.‬
‫‬
‫● صعود السياسات الشعبوية: في ظل تراجع شعبية الأنظمة السياسية في الغرب، تطرح الأحزاب السياسية حالياً سياسات اقتصادية شعبوية كتخفيض أسعار السلع وتقييد الهجرة وتبني سياسات حمائية، وذلك لجذب أصوات الجماهير.‬
‫‬
‫● انخفاض فاعلية المؤسسات الدولية: تراجعت قدرة المنظمات الاقتصادية الدولية على تحقيق الاستقرار المالي والنقدي والتجاري العالمي المنشود والتصدي الفعال للأزمات، في الوقت الذي لا يعكس نظام التصويت بها تغير موازين القوى الاقتصادية. وقد تراجع إحكام منظمة التجارة العالمية في مسألة تسوية النزاعات التجارية إلى حد بعيد. وكذلك لم تعد مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي قادرة على البت في إشكالية تفاقم الديون لدى الدول النامية أو معالجتها مقارنة بقدرتها السابقة؛ يمكن القول، إنه لا توجد الآن قواعد حاكمة رصينة وآليات مترابطة لدعم استقرار النظام الاقتصادي العالمي. ويمتد تراجع فاعلية المؤسسات الدولية إلى الوكالات التنموية والثقافية المتخصصة، فقدرتها على خدمة الأجندة التنموية العالمية باتت أقل مما كانت عليه في الماضي.‬
‫‬
‫● تصاعد القيود التجارية: منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، فرضت الكثير من الحكومات حول العالم قيوداً متتالية على حركة التجارة ورؤوس الأموال. وبالأخص، شهدت الفترة من 2019 إلى 2024 تصاعداً في القيود الحمائية لتصل إلى 3400 قيد تجاري في العام الماضي؛ لذا يمكننا القول إن الرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة مؤخراً لا تعكس موقفاً استثنائياً فردياً، وإنما تكشف عن واقع حمائي جديد يضم تيارات مختلفة من الدول بما فيها دول مجموعة العشرين G20)).‬
‫‬
‫● عدم فعالية المشاريع الإصلاحية: قدمت المنظمات الدولية في السنوات الأخيرة عدداً من المشاريع لإصلاح هيكلها التنظيمي وتعزيز حوكمتها، ومع ذلك لم تحرز بعد النجاح المنشود لإصلاح أوضاعها الداخلية. أساساً، تحتاج هذه المنظمات لإصلاح حوكمتها لتعكس تغيرات مراكز الثقل الاقتصادي في العالم.‬
‫‬
‫● البحث عن بدائل للدولار: يحتفظ الدولار إلى الآن بدور محوري في النظام الاقتصادي العالمي، حيث تشكل العملة الأمريكية 60% من الاحتياطيات العالمية، ويليه اليورو بنسبة تقارب 20%. ولكن قد تكون هذه النسب محل تغيير في المستقبل، فبعد أن كان الغيلدر الهولندي وبعده الجنيه الإسترليني عملة التسوية الرئيسية دولياً، تغلب الدولار عليهما ليصبح العملة السائدة في المعاملات المالية والتجارية على الصعيد الدولي.‬
‫‬
‫ورغم ذلك، قد يكون من المتوقع مستقبلاً أن نشهد مجدداً تصاعداً في دور الذهب بالنظام النقدي العالمي أو حتى العملات الرقمية الرسمية كاليورو الرقمي، أو زيادة في حصة اليوان الصيني في الاحتياطيات الدولية. لكن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها، فقد يستغرق الأمر فترة طويلة.‬
‫‬
‫نظام قيد التشكل:
‫‬
‫استعرض الدكتور محمود محيي الدين مجموعة من الملامح الجديدة التي ستشكل النظام الاقتصادي العالمي في المرحلة المقبلة، وذلك على النحو التالي:‬
‫‬
‫● الحمائية التجارية الدولية: تكشف نقاشات الأكاديميين الاقتصاديين حول العالم عن أن الحمائية التجارية الأمريكية تعكس إدراكاً ذاتياً بأن الأداء الاقتصادي والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية ليست في أفضل أحوالها؛ لذا كان واجباً أن تُطرح مثل هذه السياسات لدعم مكانة الاقتصاد الأمريكي من جديد. ولذا، هنا، ينبغي إدراك أمر جوهري وهو أن ترامب طريقة وأسلوب أكثر منه توجهاً جديداً، وربما كانت الولايات المتحدة ستطبق نفس السياسات التجارية، عبر قيادات أخرى، ولكن ربما ليس بنفس الحدة أو الشدة أو بأسلوب المربكات الترامبية.‬
‫‬
‫ ولعل هذا المشهد يأتي رغم الانفراجات التي رأيناها مؤخراً مع توقيع واشنطن اتفاقاً تجارياً مع المملكة المتحدة في شهر مايو، ثم بعد ذلك عقد اتفاق مبدئي آخر مع الصين. ومن المحتمل أن نرى تصاعداً في تبني القيود التجارية بأساليب مختلفة بمناطق أخرى مثل أوروبا وأمريكا الجنوبية وغيرهما.‬
‫‬
‫● الإقليمية الجديدة: يشهد العالم حالياً تأسيس ترتيبات اقتصادية إقليمية ذات أبعاد أمنية وسياسية، كدول الآسيان، أو حتى بعض التكتلات والأحلاف غير المترابطة جغرافياً. ويصاحب هذه الترتيبات تدشين آليات إقليمية للتجارة وتسوية النزاعات الإقليمية؛ لتتجنب بذلك اللجوء للمنظمات الدولية. بصفة عامة، من المتصور أن الدول النامية التي لم تستفد بالقدر الكافي من هيكل النظام الاقتصادي الحالي، تحاول إعادة تشكيل مستقبلها من خلال تأسيس ترتيبات ثنائية أو إقليمية جديدة تدعم مصالحها السياسية والاقتصادية المستقبلية.‬
‫‬
‫وأهم ما يميز هذه الترتيبات الإقليمية أنها تتمتع الآن بقدر كبير من النفوذ الاقتصادي، خاصة مع توجهها لتنمية الداخل وتوطين التنمية؛ مما دعم ظهور العديد من القوى الصاعدة كالصين والهند ومجموعة دول الآسيان، والقوى الوسطى بمنطقة الشرق الأوسط. في حين بالمقابل، تحاول التكتلات الاقتصادية الراسخة كالاتحاد الأوروبي إعادة تأكيد مكانتها الاقتصادية وسط تصاعد نفوذ التكتلات الاقتصادية الأخرى.‬
‫‬
‫● استخدام القوة الناعمة والصلبة: عند النظر إلى التأثير الدولي لما يسمى “القوى الوسطى”، لا ينبغي أن نربط ذلك بنفوذها الثقافي فقط، وإنما يمتد ذلك ليشمل تفوقها في المجالات الاقتصادية والعسكرية أيضاً والجمع بينهما سنطلق عليه “القوة الذكية”. فلكي تصبح القوى الوسطى قادرة على التأثير في محيطها الدولي أو الإقليمي؛ ينبغي أن تعمل على تضافر القوة الخشنة مع القوة الناعمة، فلا غنى لهذه القوى عن استخدام أدوات هاتين القوتين لتحقيق مصالحها على الصعيد الدولي.‬
‫‬
‫● رهان التكتلات البديلة: تنظر كثير من الدول النامية لظهور تكتل “البريكس” بمثابة طوق النجاة وكبديل عن المؤسسات الاقتصادية الدولية القائمة. مع ذلك، يبدو هذا الرهان ليس صحيحاً في المطلق، حيث لا يزال هذا التكتل ينطوي في طياته على إشكالات بين أعضائه تستند الى تاريخ المنافسة السياسية والسيادة الإقليمية وغير ذلك من الأمور. ولم يستطع “البريكس” إلى الآن تقديم بديل سياسي واقتصادي ونقدي عالمي (بما في ذلك إنشاء عملة موحدة). ومع ذلك، يوفر هذا التكتل قنوات اقتصادية بديلة للدول النامية مقارنة بما كان عليه الوضع منذ عقد أو عقدين.‬
‫‬
‫● مؤسسات تمويلية بديلة: تؤدي المؤسسات الاقتصادية التمويلية الأخرى مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وبنك التنمية التابع لتكتل “البريكس” دوراً متصاعداً في توفير قنوات بديلة للدول النامية لتمويل المشاريع الأساسية. ويمول الأول حالياً مشاريع للبنية التحتية، بناءً على أسس اقتصادية وتجارية بحتة. في حين تعكس تمويلات بنك التنمية اعتبارات الأوزان السياسية لأعضاء “البريكس”.‬
‫‬
‫● سباق دولي نحو الابتكار: تتسابق القوى الاقتصادية في العالم في الوقت الراهن لتحقيق السيادة التكنولوجية وتعزيز الابتكار ودعم استخدام التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي. فمن يحقق الريادة في هذه المجالات دون منافسيه، يستطيع تغيير ميزان القوى الاقتصادي في المستقبل. وتقدم لنا تجربة سنغافورة دروساً عديدة في هذا الإطار؛ حيث استطاعت الدولة بفضل دعم الابتكار أن تكرس واقعاً اقتصادياً جديداً وأن تنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة. وحتى كثير من الدول العربية تسعى الآن لدعم الابتكار وإحراز السبق في التقنيات الجديدة كالذكاء الاصطناعي.‬

No comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *